أنكرت النبوة طوائف ذكرها العلماء
أنكرت النبوة طوائف ذكرها العلماء ، وأهم هذه الطوائف :
" البراهمة ، والصابئة ، وبعض معطلة العرب " ([1]) .
" ومن المنكرين أيضاً من لاح ذلك من على أفعاله وأقواله كالمصرِّين على الخلاعة وعدم المبالاة ونفي التكاليف ، ودلالة المعجزات ، وهؤلاء آحاد ، وأوباش من الطوائف لا طائفة معينة يكون لها ملة ونحلة " ([2]) .
ومن البراهمة من يرى نبوة آدم فقط ومنهم من قال بنبوة إبراهيم فقط ([3]) .
وسنتناول بالتعريف كلاً من هذه الفرق وشبههم والرد عليها .
أولاً : البراهمة :-
هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون إنَّهم من ولد " برهمي " ملك من ملوكهم قديم وهم يقولون بالتوحيد إلا أنَّهم أنكروا النبوات ([4]) .
شبهة البراهمة في إنكارهم للنبوة :
1- قالوا إنَّ ما جاء به النبي إمَّا أن يكون موافقاً للعقل حسناً عنده فيقبل ويفعل ، وإن لم يأت به نبي ، أو مخالفاً له قبيحاً عنده فيرد ويترك ، وإن جاء به النبي ، وإن كان لا حسناً عند العقل ولا قبيحاً يفعل عند الحاجة ، لأنَّ مجرد الاحتمال لا يعارض تنجز الاحتياج ، ويترك عند عدمها للاحتياط .
2- قالوا أيضاً إنَّ هناك أفعال أمر بها الأنبياء كأفعال الصلاة من القيام والقعود ، والركوع ، والسجود ، وأعمال الحج نحو التلبية والهرولة والطواف كلها مستقبحة من جهة العقل منكرة ([5]) .
وقد أجاب " التفتازاني " ([6]) عن هذه الشبهة فقال : " إنَّ ما يوافق العقل قد يستقل بمعرفته فيعاضده النبي ، ويؤكده بمنزلة الأدلة على مدلول واحد ، وقد لا يستقل فيدله عليه ، ويرشده ، وما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم فيدفعه النبي ، أو يرفع عنه الاحتمال وما لا يدرك حسنه ، ولا قبحه قد يكون حسناً يجب فعله أو قبيحاً يجب تركه ، هذا مع أنَّ العقول متفاوتة بالتفويض إليها ، مظنة التنازع والتقاتل ، ومفضٍ إلى اختلال النظام " ([7]) .
فنحن إذاً نسلِّم بأنَّ العقل له قدرة على إدراك ومعرفة الحسن والقبيح في الأمور ، ومعرفة النافع والضار ، ولكن مع ذلك فإن هناك أموراً لا يستطيع الإنسان أن يدركها بمجرد عقله مثال ذلك معرفة أسماء الله ، وصفاته ، وتفاصيل ما أعدّه الله لأوليائه من النعيم في الجنة وما أعدَّه لأعدائه من العذاب ، والعقاب ، كما أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يتوصَّل بعقله إلى معرفة المنهج الذي يعيش على ضوئه في الحياة ليصل عن طريقه إلى تحقيق السعادة والاطمئنان .
والذي يدركه الإنسان بعقله يدركه مجملاً فهو لا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع ، والعقول أيضاً قد تحار في الفعل الواحد الذي قد يشتمل على مصلحة ، ومفسدة في آن واحد فتأتي الشرائع وتبين الصواب فيها وتأمر بما فيه المصلحة ، وكذلك الفعل قد يكون في الظاهر مفسدة ، ولكنه في باطنه يحوى مصلحة لا يدركها العقل فتأتي الشرائع وتبين ذلك .
فمن ذلك يتضح لنا أننا بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في هذه الحياة ، وعلاقتنا بالله سبحانه وتعالى لنعبده على الوجه الذي يحبه ويرضاه .
ونظراً لما لبعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فوائد عظيمة على البشريـة ، قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ([8]) .
أمَّا عن الشق الثاني من الشبهة وهو قولهم إنَّ أعمال الصلاة والحج والطواف وغيرها من الأمور التعبدية مستقبحة من جهة العقل فالجواب عنه : أنّ هذه الأمور التعبدية اعتبرها الشارع ابتلاءً للمكلفين وتطويعاً لأنفسهم ، وتأكيداً لملكة امتثالهم الأوامر والنواهي ، ولعلَّ فيها حكماً ومصالح لا يعلمها إلا الله ([9]) .
ولذلـك فـإنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال – كما رُوي عنه حين قبَّل الحجر الأسود – " والله إنَّى أعلم أنَّك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أنَّي رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك " .
ثانياً : الصابئة :-
الصابئ : هو التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره .
والصابئون سموا بذلك لأنَّهم فارقوا دين التوحيد ، وعبدوا النجوم وعظَّموها ، ولهم مذاهب ينفردون بها ، ويقرون بالصانع وببعض الأنبياء ([10]) .
ولقد عرف " الشهرستاني " ([11]) الصابئة بأنهم الذين يقرون بالمحسوس والمعقول ، ويقولون بالحدود والأحكام العقلية ، ولا يقولون بالشريعة ولا النبوات ، وبعض الصابئة أقرَّ بنبوة بعض الأنبياء وهما " شيث " و " إدريس " عليهما السلام .
وقيل لهم صابئة لميلهم عن سنن الحق ، وزيغهم عن نهج الأنبياء وفي اللغة صبأ الرجل : إذا مال وزاغ .
والصابئة : طوائف فمنهم أصحاب الروحانيات عبدة الملائكة ، ومنهم أصحاب الهياكل وهم عبدة الكواكب ، ومنهم أصحاب الأشخاص وهم عبدة الأوثان ([12]) .
فأصحاب الروحانيات أنكروا بعث الرسل في الصورة البشرية فقالوا " الأنبياء أمثالنا في النوع ، وأشكالنا في الصورة ، يشاركوننا في المادة يأكلون مما نأكل ، ويشربون مما نشرب ، ويساهموننا في الصـورة أناس بشر مثلنا فمن أين لنا طاعتهم ؟ وبأية مزية لهم لزمـت متابعتهم ؟ ([13]) .
ونظراً لأنَّ هذه الشبهة مما أثارها مشركو قريش في إنكارهم لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلمفإننا سنرد عليها عند الحديث عن منكري نبوته صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً : معطلة العرب :
وهم أصناف منهم من أقرَّ بالخالق ، وابتداء الخلق ، ونوع الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام .
ومن شبهاتهم : إنكارهم لبعث الرسل في الصورة البشرية ([14]) .
وسنرد أيضاً على هذه الشبهة عند الحديث عن منكري نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن شبهات المنكرين للنبوة بشكل عام شبهة التمسك بالتقليد والتبعيَّة لما كان عليه الآباء والأجداد ، وهذه الشبهة سنرد عليها أيضاً عند الحديث عن منكري نبوته صلى الله عليه وسلم، لأنها من الشبه التي تمسك بها قومه في إنكار نبوته عليه الصلاة والسلام .
ومن الشبه التي أثارها منكرو النبوات أنَّهم طعنوا في معجزات الأنبياء التي يجريها الله على أيديهم ، فقالوا إنَّه قد يوجد مثلها في أهل الشعبذة والمخرفة ، وليس ذلك من دلائل صدقهم ، فكذلك أحكام المعجزات ([15]) .
والردُّ على هذه – كما قال " الماوردي " ([16]) – من وجهين :
أحدهما : أن الشعبذة تظهر لذوي العقول ، وتندلس على الغر الجهول ، فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول .
الثاني : أن الشعبذة تستفـاد بالتعليم ، فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئاً لمن أحسنها ، ويعارضها بمثلها ، والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها ، ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصا موسى حية تسعى ، تلقف ما أفكه السحرة فخروا له سجداً ([17]) .
وهكذا نجد أنَّ ما أثاره أهل الباطل من شبهات في إنكارهم للنبوات ليست سوى شبهات واهية لا تصمد أمام المناقشة الجادة ، والاستدلال العقلي السليم ، وفعلاً فقد جادل الرسل عليهم السلام أقوامهم ، وبيَّنوا لهم وجه الحق والصواب ، إلا أنَّهم أصمَّوا آذانهم عن سماع الحق ، فاستحقوا لذلك عذاب الله .
ولاشك أنَّ بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أعظم ما منَّ الله به على عباده ، فالبشرية في أمس الحاجة إلى تعاليم الرسل عليهم الصلاة والسلام الموحاة من عند الحكيم الخبير بما يصلح عباده ، وإنَّه ليظهر لنا هذا الأمر بوضوح في عصرنا الحاضر ، الذي بلغت فيه البشرية ذروة التقدم المادي في جميع مجالات الحياة ، واغترَّ البشر بعقولهم فرفضوا تعاليم الأنبياء ، وأقاموا دولهم على الإلحاد تحت ستار " العلمانية " و " العقلانية " وغيرها من المذاهب الباطلة التي تمردت على شرائع الله ، وأنكرتها فـإن نظرة واحدة على أحوال هذه الدول المتحضرة مادياً ، تدلنا على مدى شقائهم ، وتخبطهم حيث ظهرت الانحرافات الخلقية في تلك المجتمعات وتردت إلى أبشع صورة مما لا يكاد يخطر على بال أحد ، وما ذاك إلا لبعدهم عن منهج الله .
فنحن إذن بحاجة إلى رسالات الرسل لصلاح قلوبنا ، وإنارة نفوسنا واستقامة حياتنا ، لئلا ننحرف فنقع في المستنقع الآسن لا سمح الله .
([1]) العقيدة في ضوء القرآن الكريم ، ص259 .
([2]) شرح المقاصد ، ص129 .
([3]) الإيجي : المواقف ، ص344 .
([4]) الفصل في الملل والأهواء والنحل ، 1/137 .
([5]) انظر شرح المقاصد ، ص129 ؛ شرح الأصول الخمسة ، ص563-566 ؛ الإرشاد ، ص303-305 ؛ المواقف ، ص345 .
([6]) التفتازاني هو : مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني من أئمة العربية والبيان والمنطق ، ولد بتفتازان من بلاد خراسان ، وتوفي بسمر قند سنة 793هـ ، ومن مؤلفاته " تهذيب المنطق " ، و " مقاصد الطالبين " ، و " المطول في البلاغة " . انظر ترجمته في الأعلام ، 7/219 .
([7]) شرح المقاصد ، ص129 .
([8]) سورة آل عمران : بعض آية : 164 .
([9]) انظر شرح المقاصد ، ص130 ؛ شرح الأصول الخمسة ، ص563-565 ؛ الإرشاد للجويني ، ص303-305 ؛ مجموع الفتاوى ، ج19/93-96 ؛ مفتاح دار السعادة ، ج2/2 ؛ لوامع الأنوار البهيَّة ، 2/256 .
([10]) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ، ص143 .
([11]) محمد بن عبد الكريم أبو الفتح الشهرستاني ، ولد في شهرستان عام 479هـ من كتبه : الملل والنحل ، ونهاية الأقدام في علم الكلام ، توفي ببغداد عام 548هـ . انظر ترجمته في وفيات الأعيان ، 1/482 .
([12]) الملل والنحل للشهرستاني ، 2/504 .
([13]) نفس المصدر السابق ، ص7 .
([14]) نفس المصدر السابق ، ص235 .
([15]) أعلام النبوة للماوردي ، ص25 .
([16]) الماوردي : أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي ، ولد بالبصرة عام 364هـ ، صاحب مصنفات كثيرة منها : التفسير ، والأحكام السلطانية ، توفي عام 450هـ . انظر ترجمته في الأعلام للزركلي ، ج4/327 .
([17]) أعلام النبوة ، ص25 .
.
0 comments:
Posting Komentar